تُعد صناعة الشوكولاتة في أوروبا من أكثر الصناعات التي تواجه تحديات اقتصادية حادة في الوقت الحالي، وسط أزمة مستمرة في إمدادات الكاكاو التي تسببت في تقلبات غير مسبوقة في أسعار المواد الخام. من المتاجر التقليدية إلى الشركات الكبرى، يكافح المنتجون للحفاظ على أعمالهم وسط ارتفاع تكاليف الكاكاو بشكل غير مسبوق، مما دفع العديد منهم إلى اتخاذ قرارات صعبة قد تؤدي إلى فقدان جزء من إرثهم التاريخي.
متجر “آ لا مير دو فاميي” في باريس: إرث عائلي مهدد
يقع أقدم متجر شوكولاتة في باريس، “آ لا مير دو فاميي”، في أحد شوارع الدائرة التاسعة. يعود تاريخه إلى عام 1761، وقد شهد على مر القرون تغييرات عدة، لكنها صمدت بفضل شغف الباريسيين بالحلويات. رغم الصعوبات التي مر بها، لا يزال المتجر الذي تملكه “عائلة دولفي” منذ عام 2000 يستقطب الزبائن. بفضل تلك العائلة، توسع المتجر ليشمل أكثر من 150 صنفاً من الحلويات، ولكن حتى مع هذا التوسع، لم تكن العائلة محصنة من التحديات التي يواجهها قطاع الشوكولاتة في الوقت الراهن.
أزمة إمدادات الكاكاو: ضغط على أسعار الشوكولاتة
تواجه صناعة الشوكولاتة في أوروبا أزمة حادة نتيجة النقص الكبير في إمدادات الكاكاو. حيث تشير التقديرات إلى أن العجز في الإمدادات في موسم 2023-2024 وصل إلى 478 ألف طن، وهو أعلى نقص منذ ثمانينيات القرن الماضي. هذه الأزمة أثرت بشكل مباشر على أسعار الكاكاو التي ارتفعت إلى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه في العام الماضي، ما دفع العديد من الشركات لتوجيه بعض التكاليف الإضافية إلى المستهلكين.
في الوقت الذي استطاعت فيه الشركات الكبرى مثل “نستله” و”هيرشي” التأقلم مع هذه الزيادة بفضل حجمها الكبير، كانت الشركات الصغيرة، مثل “آ لا مير دو فاميي”، تواجه صعوبة أكبر في التكيف. حيث يقول جوناثان دولفي، أحد أعضاء العائلة المالكة للمتجر: “الوضع معقد. إذا لم نرفع الأسعار، سنخسر، وإذا رفعناها بشكل كبير، سنخاطر بفقدان الزبائن”.
تأثير الأزمة على الشركات الصغيرة
في ظل الزيادة الكبيرة في أسعار الكاكاو، شهدت بعض الشركات العائلية الشهيرة في أوروبا الإفلاس أو الإغلاق. على سبيل المثال، أُغلِق متجر “ليزيفر” الألماني المتخصص في صناعة البرالين بعد أكثر من قرن من النشاط، في حين أُغلِق مصنع “سالزبورغ شوكولادة” النمساوي بعد أن أظهرت التقارير المالية عجزاً عن تغطية تكاليف المواد الخام والطاقة.
مواقف الشركات الكبرى: حلول مؤقتة للحد من التكاليف
أما الشركات الكبرى مثل “نستله”، فقد لجأت إلى زيادة نسبة البسكويت والويفر في بعض منتجاتها لتقليل الاعتماد على الكاكاو، وبالتالي التخفيف من حدة الأزمة. وقالت مورييل كورتر، المديرة العامة لرابطة صناعات الشوكولاتة في أوروبا، إن تأثير الارتفاع الكبير في الأسعار يظهر بوضوح في جميع أنحاء القطاع، وأن الشركات الصغيرة كانت الأكثر تأثراً، حيث اضطرت لتعديل استراتيجياتها بسرعة.
ارتفاع الأسعار: تحدي كبير أمام الشركات المستقلة
في ظل تزايد الأسعار بشكل مستمر، بدأ المستهلكون يتحولون بشكل متزايد إلى الشوكولاتة الأرخص التي تنتجها الشركات الكبرى، مثل “هيرشي” و”مونديليز”. وتُظهر التقارير أن الأسعار قد ارتفعت بنسبة تتراوح بين 40% و50% مقارنة بالماضي، ما يشير إلى تحول حاد في سلوك المستهلكين الذين يفضلون اختيار المنتجات الأقل تكلفة.
التحديات المستقبلية: هل من حلول؟
بدأ بعض منتجي الشوكولاتة في البحث عن بدائل للكاكاو مثل زبدة الشيا أو زيت عباد الشمس لتقليل التكاليف. لكن العديد من الشركات الصغيرة ترفض التغيير، متمسكة بوصفاتها التقليدية التي تميز منتجاتها. وفي الوقت نفسه، بدأت بعض الشركات في البحث عن مصادر جديدة للكاكاو، مع التركيز على أمريكا الوسطى والجنوبية التي شهدت زيادة في حصتها من الإنتاج العالمي.
التأثيرات طويلة المدى وتوقعات السوق
على الرغم من الأزمة الحالية، يتوقع محللو “جيه بي مورغان تشيس” أن تشهد السوق تحسناً في إمدادات الكاكاو في المواسم المقبلة. ومع ذلك، قد يتطلب الأمر بعض الوقت لتجاوز هذه الأزمة بشكل كامل. يضيف المحللون أن التوقعات تشير إلى إمكانية تحسن الإنتاج في ساحل العاج وغانا في موسم 2025-2026، ما قد يساهم في استعادة التوازن في السوق.
النتيجة: الشركات الصغيرة في خطر
إذا استمرت الأسعار المرتفعة لفترة طويلة، فإن الكثير من الشركات العائلية التي طالما كانت جزءاً من تاريخ صناعة الشوكولاتة في أوروبا قد تواجه صعوبة في البقاء. إذ يتوقع العديد من المنتجين الصغار أن تكون فترة الأعياد المقبلة هي التحدي الأكبر، حيث يتوقعون ارتفاعاً أكبر في الأسعار.
في النهاية، يشير القلق في تصريحات عائلة دولفي إلى أن الشوكولاتة قد تصبح سلعة باهظة الثمن بشكل دائم في المستقبل القريب، ما قد يهدد تقاليد صناعة الشوكولاتة الأوروبية التي تعتمد على الجودة والمهارات التقليدية.
ختاماً، وبينما يسعى المنتجون إلى التكيف مع الظروف الراهنة، يبقى مستقبل صناعة الشوكولاتة الأوروبية غير مؤكد، مع استمرار ارتفاع الأسعار وتزايد الصعوبات الاقتصادية.
